الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38)} فيه خمس مسائل:الأُولى: قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا} أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى، وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها.قال ابن عطية: ولو كان كما ذكر الكسائيّ أنه في مصحف عبد الله بن مسعود {قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم} لما تأدّت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها؛ هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ.الثانية: قوله تعالى: {إِن يَنتَهُواْ} يريد عن الكفر.قال ابن عطية: ولابُدَّ؛ والحامل على ذلك جواب الشرط {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لِمُنْتَهٍ عن الكفر.ولقد أحسن القائل أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري:روى مسلم عن أبي شُماسة المهرِيّ قال: حضرْنا عمرو بن العاص وهو في سِياقةِ الموت يبكي طويلًا... الحديث.وفيه: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الإسلام يَهدِم ما كان قبله وأن الهجرة تَهدِم ما كان قبلها وأن الحج يهدِم ما كان قبله» الحديث.قال ابن العربيّ: هذه لطيفة من الله سبحانه منّ بها على الخلق؛ وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم، ويرتكبون المعاصي والمآثم؛ فلو كان ذلك يوجب مؤاخذة لهم لما استدركوا أبدًا توبة، ولا نالتهم مغفرة.فيسّر الله تعالى عليهم قبول التوبة عند الإنابة، وبذل المغفرة بالإسلام، وهدم جميع ما تقدم؛ ليكون ذلك أقربَ لدخولهم في الدين، وأدعى إلى قبولهم لكلمة المسلمين، ولو علموا أنهم يؤاخذون لما تابوا ولا أسلموا.وفي صحيح مسلم: «أن رجلًا فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم سأل هل له من توبة فجاء عابدًا فسأله هل له من توبة فقال: لا توبة لك فقتله فكمل به مائة» الحديث.فانظروا إلى قول العابد: لا توبة لك؛ فلما علم أنه قد أيئسه قَتله، فِعْلَ الآيس من الرحمة.فالتنفير مفسدة للخليقة، والتيسير مصلحة لهم.وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل فسأله: هل لقاتلٍ من توبة؟ فيقول: لا توبة؛ تخويفًا وتحذيرًا.فإذا جاءه مَن قتل فسأله: هل لقاتل من توبة؟ قال له: لك توبة؛ تيسيرًا وتأليفًا.وقد تقدّم.الثالثة: قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك فيمن طلّق في الشرك ثم أسلم؛ فلا طلاق له.وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه.وكذا من وجبت عليه هذه الأشياء؛ فذلك مغفور له.فأما من افترى على مسلم ثم أسلم أو سَرق ثم أسلم أُقيم عليه الحدّ للفِرية والسرقة.ولو زنى وأسلم، أو اغتصب مسلمة ثم أسلم سقط عنه الحدّ.وروى أشهب عن مالك أنه قال: إنما يعني الله عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام، من مال أو دم أو شيء.قال ابن العربيّ: وهذا هو الصواب؛ لما قدّمناه من عموم قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}، وقوله: «الإسلام يهدِم ما قبله»، وما بيناه من المعنى من التيسير وعدم التنفير.قلت: أما الكافر الحربِيّ فلا خلاف في إسقاط ما فعله في حال كفره في دار الحرب.وأما إن دخل إلينا بأمان فقذف مسلمًا فإنه يحدّ، وإن سرق قطع.وكذلك الذِّميّ إذا قذف حدّ ثمانين، وإذا سرق قطِع، وإن قتل قتل.ولا يُسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره؛ على رواية ابن القاسم وغيره.قال ابن المنذر: واختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين؛ فحكي عن الشافعيّ رضي الله عنه إذ هو بالعراق لا حدّ عليه ولا تغريب؛ لقول الله عز وجل: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}.قال ابن المنذر: وهذا موافق لما روي عن مالك.وقال أبو ثور: إذا أقرّ وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أُقيم عليه الحدّ.وحكي عن الكوفي أنه قال: لا يحدّ.الرابعة: فأما المرتد إذا أسلم وقد فاتته صلوات، وأصاب جناياتٍ وأتلف أموالًا؛ فقيل: حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم؛ لا يؤخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده.وقال الشافعيّ في أحد قوليه: يلزمه كل حق لله عز وجل وللآدمي؛ بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى.وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط.قال ابن العربيّ: وهو قول علمائنا؛ لأن الله تعالى مستغنٍ عن حقه، والآدميّ مفتقر إليه.ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي وتلزمه حقوق الآدميين.قالوا: وقوله تعالى؛ {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} عام في الحقوق لله تعالى.الخامسة: قوله تعالى: {وَإِنْ يَعُودُواْ} يريد إلى القتال؛ لأن لفظة عاد إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها.قال ابن عطية: ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال.ولا يجوز أن يتأوّل إلى الكفر؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه، وإنما قلنا ذلك في عاد إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة في الابتداء والخبر، فيكون معناها معنى صار؛ كما تقول: عاد زيد ملِكًا؛ يريد صار.ومنه قول أُمية بن أبي الصلت: وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل.فهي مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونها؛ فحكمها حكم صار.قوله تعالى: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأُمم في سالف الدهر بعذاب الله. اهـ. .قال الخازن: قوله سبحانه وتعالى: {قل} يعني قل يا محمد {للذين كفروا إن ينتهوا} يعني عن الشرك {يغفر لهم ما قد سلف} يعني ما قد مضى من كفرهم وذنوبهم قبل الإسلام {وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} يعني في إهلاك أعدائه ونصر أوليائه.ومعنى الآية: إن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن الكفر ودخلوا في دين الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وشركهم وإن عادوا إلى الكفر وأصروا عليه فقد مضت سنة الأولين بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أن الإسلام يجب ما قبله وإذا أسلم الكافر لم يلزمه شيء من قضاء العبادات البدنية والمالية.وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه يعني بذلك أنه ليس عليه ذنب.قال يحيى بن معاذ الرازي: التوحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر فأرجوا الله أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب. اهـ..قال أبو حيان: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قَد سلف}لما ذكر ما يحل بهم من حشرهم إلى النار وجعلهم فيها وخسرهم تلطّف بهم وأنهم إذا انتهوا هن الكفر وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر فلذلك كان المعنى {إن ينتهوا} عن الكفر واللام في {للذين} الظاهر أنها للتبليغ وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول وسواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وجعل الزمخشري اللام لام العلة، فقال: أي {قل} لأجلهم هذا القول: {إن ينتهوا} ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل إن تنتهوا نغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود ونحوه، {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه} خاطبوا به غيرهم ليسمعوه انتهى، وقرئ {يغفر} مبنيًا للفاعل والضمير لله تعالى.{وإن يعودوا فقد مضت سنة الأوّلين}.العود يقتضي الرجوع إلى شيء سابق ولا يكون الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه فالمعنى عَوْدهم إلى ما أمكن انفصالهم منه وهو قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل {وإن يعودوا} إلى الارتداد بعد الإسلام، وبه فسّر أبو حنيفة {وإن يعودوا} واحتج بالآية على أن المرتد إذا أسلم فلا يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة وقبلها وأجمعوا على أن الحربي إذا أسلم لم تبقَ عليه تبعة وأما إذا أسلم الذميّ فيلزمه قضاء حقوق الآدميين لا حقوق الله تعالى والظاهر دخول الزنديق في عموم قوله: {قل للذين كفروا} فتقبل توبته وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقال مالك لا تقبل، وقال يحيى بن معاذ الرازي: التوحيد لا يعجز عن هدم ما قبله من كفر فلا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب وجواب الشرط قالوا: {فقد مضت سنة الأولين}، ولا يصح ذلك على ظاهره بل ذلك دليل على الجواب والتقدير {وإن يعودوا} انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنّة الأوّلين في أنا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم وكفرهم ويحتمل {سنة الأولين} أن يراد بها سنة الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر وسنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم فدمّروا فليتوقعوا مثل ذلك وتخويفهم بقصة بدر أشدّ إذ هي قريبة معاينة لهم وعليها نص السدّيّ وابن إسحاق، ويحتمل أن يراد بقوله: {سنة الأولين} مَن تقدّم مِن أهل بدر والأمم السالفة والمعنى فقد عاينتم قصة بدر وسمعتم ما حلّ بهم. اهـ..قال أبو السعود: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ}هم أبو سفيانَ وأصحابُه أي قل لأجلهم: {إِن يَنتَهُواْ} عما هم فيه من معاداة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من الذنوب وقرئ إن تنتهوا يُغفرْ لكم ويَغفِرْ لكم على البناء للفاعل وهو الله تعالى: {وَإِن يَعُودُواْ} إلى قتالهم: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين} الذين تحزّبوا على الأنبياء عليهم السلام بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثلَ ذلك. اهـ..قال الألوسي: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي المعهودين وهم أبو سفيان وأصحابه، واللام عند جمع للتعليل أي قل لأجلهم: {إن يَنْتَهُوا} عما هم فيه من معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} منهم من الذنوب التي من جملتها المعاداة والانفاق في الضلال، وقال أبو حيان: الظاهر أن اللام للتبليغ وأنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ هذه الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وهذا الخلاف إنما هو على قراءة الجماعة وأما على قراءة ابن مسعود {إن تَنتَهُواْ يَغْفِرْ لَكُمْ} بالخطاب فلا خلاف في أنها للتبليغ على معنى خاطبهم بذلك، وقرئ {نَّغْفِرْ لَهُمْ} على أن الضمير لله عز وجل: {وَإِن يَعُودُواْ} إلى قتاله صلى الله عليه وسلم أو إلى المعاداة على معنى إن داوموا عليها {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} أي عادة الله تعالى الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم.وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة، ونظير ذلك قوله سبحانه: {سُنَّةَ مَن قُدِرَ أَرْسَلْنَا} [الإسراء: 77] فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى لقوله سبحانه: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77] باعتبار جريانها على أيديهم، ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، وبعضهم فسره بذلك ولعل الأول أولى لعمومه ولأن السنة تقتضي التكرر في العرف وإن قالوا: العادة تثبت بمرة، والجملة على ما في البحر دليل الجواب، والتقدير أن يعودوا انتقمنا منه أو نصرنا المؤمنين عليهم فقد مضت سنة الأولين، وذهب غير واحد إلى أن المراد بالذين كفروا الكفار مطلقًا، والآية حث على الايمان وترغيب فيه، والمعنى أن الكفار أن انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين وإن عادوا إلى الكفر بالارتداد فقد رجع التسليط والقهر عليهم، واستدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس، وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية، واستدل بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك قال: لا يؤاخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم وذلك لأن الله تعالى قال: {إِن يَنتَهُواْ} إلخ.
|